النهايات أسيرة البدايات د. محمد السعيد إدريس
النهايات أسيرة البدايات
د. محمد السعيد إدريس
على الرغم من نجاحات الإعلام الغربى (الأمريكى- الأوروبى) فى خلق ما يسمى بـ "صورة ذهنية" عن أسباب تفجر الأزمة الأوكرانية الحالية منذ بدء العملية العسكرية الروسية فى 24 فبراير الماضى، وعن تطورات العملية العسكرية والترويج لـ "تعثر موسكو" فى تحقيق نجاحات ملموسة فى أوكرانيا، ولاحتمال أن تكون أوكرانيا بمثابة "أفغانستان الأوروبية" لروسيا، و"تورط روسيا فى حرب استنزاف داخل أوكرانيا" فإن الواقع الذى بدأ يفرض نفسه على الأرض داخل أوكرانيا من ناحية وتراجع فرص التورط الأوروبى والأطلسى بالقتال فى أوكرانيا ضد روسيا، من ناحية ثانية، وتفاقم المأزق الذى يواجه الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى فى إدارة الأزمة أمام العزوف الأوروبى والأطلسى عن دعم طموحاته ضد روسيا من ناحية ثالثة، أخذ يفرض إجابات بديلة للسؤال المهم: وماذا بعد؟ بمعنى ما هى السيناريوهات المحتملة للأزمة الأوكرانية وكيف ستنتهى هذه الأزمة؟
الواقع الجديد للأزمة الأوكرانية بكل أبعاده لم يغير فقط، أو بالأحرى لم يسقط فقط السيناريوهات الغربية المتعجلة وتوقعاتها المستقبلية للأزمة، بل أخذ يفرض، من جديد، البحث عن أسباب تفجر هذه الأزمة، وبالتحديد الإجابة عن السؤال المهم: هل ما قامت به روسيا وما تقوم به داخل أوكرانيا على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية يعد عملاً عدوانياً روسياً أم هو دفاع مشروع عن مصالح أمنية واستراتيجية روسية؟
لقد جرى تشويه متعمد للعملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، كما جرى قبلها تشويه المطالب الروسية التى أعلنتها موسكو وجرى تسليمها رسمياً إلى كل من واشنطن ولكسمبورج (حلف شمال الأطلسى) قبل أسابيع من بدء العملية العسكرية، وخاصة عدم انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسى (الناتو) وتفريغ أوكرانيا من ترسانة الأسلحة الموجودة بها، وإنهاء وجود القواعد العسكرية الأميركية فى الجمهوريات السوفيتية السابقة التى أصبحت عضواً فى حلف الناتو. كان فحوى هذه المطالب التى جرى رفضها عبر ثلاث من جولات التفاوض الروسى مع الأمريكيين والأوروبيين، إقرار صيغة جديدة للأمن المتكافئ فى أوروبا قائمة على توازن المصالح.
رفض الأمريكيون والأوروبيون هذه المطالب وجرى توصيفها على أنها تدخّل فى حرية وسيادة القرار الوطنى الأوكرانى، وخاصة حق تقرير المصير فى ما يتعلق بالرغبة الأوكرانية فى الانضمام إلى "حلف الناتو" وأكد الأمين العام للحلف تمسك الحلف بسياسة "الباب المفتوح" أمام أى دولة تمتلك الشروط المطلوبة للانضمام إليه ، أى تمسك الحلف بحق أوكرانيا فى الانضمام إلى الحلف رغم أنف الرفض الروسى واعتبار هذا الرفض غير مشروع وعدوانى.
الآن، وأمام حقائق نجاحات العملية الروسية فى أوكرانيا بدأ العالم أكثر استعداداً للإنصات للتفسير الروسى، والإلمام بحقائق تاريخ العلاقة بين روسيا وأوكرانيا، قديماً وحديثاً وعلى الأخص ما اتفق عليه عشية سقوط الاتحاد السوفيتى بين الرئيس السوفيتى الأسبق ميخائيل جورباتشيف ووزير خارجيته إدوارد شيفارد نادزه، والرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش (الأب) ووزير خارجيته جيمس بيكر، حيث تم الاتفاق رسمياً من حيث المبدأ على أن الاتحاد السوفيتى القديم سوف يتفكك إلى "جمهوريات" متعددة ومختلفة، فى مقابل أن يلتزم حلف الأطلسى (الناتو) بعدم التوسع إلى ما وراء حدوده الحالية (آنذاك) أى أن يتعهد حلف "الناتو" بعدم اتخاذ أى إجراء يمكن اعتباره معادياً ومهيناً بشكل مباشر لروسيا الاتحادية فى أى من دول الكتلة الشرقية السابقة (بولندا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا ودول البطليق الثلاث على سبيل المثال)، لكن ما حدث كان العكس تماماً.
فعلى الرغم من أن سقوط حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفيتى قد أنهى مبررات وجود وبقاء حلف الناتو، حيث تأسس هذا الحلف لمحاصرة الاتحاد السوفيتى والكتلة الشيوعية التى ضمها "حلف وارسو" فإن حلف الناتو ازداد توحشاً ضد روسيا. لم يكتف الغرب بإلغاء أى التزام باتفاق "شيفارد نادزه – جيمس بيكر" حيث تم دمج إسقاط نظم الحكم فى دول شرق أوروبا عبر "ثورات ملونة" أدارتها المخابرات الغربية والمجئ بنظم حكم موالية للغرب ومعادية لروسيا، وبعدها تم دمج دول شرق أوروبا فى الاتحاد الأوروبى ثم فى حلف الناتو، وبعدها حدث نفس الشئ فى جمهوريات البلطيق الثلاث التى كانت عضواً سابقاً فى الاتحاد السوفيتى، وبقيت أوكرانيا وجورجيا تستعدان للانضمام إلى المركب الغربى. فضلاً عن ذلك لم يقبل الغرب بروسيا الجديدة التى أنهت كل علاقة لها بالحكم الشيوعى السابق، بل عمد القادة فى واشنطن وبروكسل إلى انتهاج سياسة إذلال للقيادة الروسية، ومطالبة روسيا بالتخلى عن أى سياسة استقلال حقيقى أو المطالبة بأى نوع من الشراكة الحقيقية مع الغرب، على نحو ما حدث من إنكار غربى لـ "مذكرة بودابست" بشأن الضمانات الأمنية المؤرخة فى 5 ديسمبر 1994.
فمن خلال هذه الاتفاقية أكدت كل من روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا اعترافها بأن بيلاروسيا وكازاخستان وأوكرانيا أصبحوا أطرافاً ممثلين فى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وبأن هذه الدول قبلت التخلى، وبشكل فعّال عن ترسانتها النووية لصالح روسيا، وفى المقابل اعترفت روسيا بسلامة وسيادة أوكرانيا المحايدة، غير العسكرية وغير المعادية. لكن واشنطن لم تحترم أبداً هذه الاتفاقية، ولم تعتبر أنها ملزمة قانونياً باحترامها، وعملت على إسقاطها شعبياً داخل أوكرانيا عبر دعم وتمويل انقلاب سياسى أنهى الحكم الأوكرانى الموالى لروسيا (ثورة فبراير 2014) وفرض نظام حكم موال للغرب ومعاد لروسيا وحريص على ضم أوكرانيا إلى حلف "الناتو"، وممعن فى انتهاك كل الحقوق السياسية والإنسانية للمواطنين الأوكرانيين (من أصل روسى) فى شرق أوكرانيا (إقليم دونباس) حيث تم إقصاء كل من له علاقة مع روسيا من العملية السياسية، وانتهج قادة أوكرانيا سياسة شديدة الاستفزاز فى عدائها مع روسيا وارتباطها بالغرب والسعى الدءوب للالتحاق بحلف الناتو، وتبنى قوانين عدائية استفزت موسكو على غرار ما يسمى بـ "قانون الشعوب الأصلية فى أوكرانيا" الذى اعتبر كل ذوى الأصول الروسية ليسوا من شعوب أوكرانيا، ولا يحق لهم التمتع بميزات خاصة فيما يتعلق باللغة والثقافة، وإلزام جميع موظفى الدولة باستخدام اللغة الأوكرانية حصراً، وتغيير أسماء المدن التاريخية التى بناها القياصرة الروس، ناهيك عن تصريحات الرئيس الأوكرانى بالرغبة فى الحصول على أسلحة نووية، وإغلاق مصانع محركات الطائرات والسفن التى يعتمد عليها الجيش الروسى فى إطار سياسة التكامل بين البلدين.
الوثيقة التى أعلن العثور عليها وقت اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية الميجور جنرال ايجور كوناشينكوف كشفت مدى خطورة ما كان يدبر من حكومة كييف للروس فى إقليم الدونباس شرقى أوكرانيا، حيث أعلن أن "العملية العسكرية الخاصة للقوات المسلحة الروسية، التى بدأت فى 24 فبراير أعاقت وأحبطت هجوماً واسع النطاق للمجموعات الضاربة للقوات الأوكرانية على جمهوريتى لوجانسك ودونيتسك (بإقليم الدونباس اللتين اعترفت روسيا باستقلالهما عن أوكرانيا قبيل بدء العملية العسكرية) فى مارس الجارى. وقبل ذلك كله أمعن الأوكرانيون بعدم الالتزام باتفاقية مينسك لعام 2015 وفق "صيغة نورماندى" بين روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا.
كل هذه المقدمات والبدايات تؤكد أن ما قامت وما تقوم به روسيا لم تكن عملاً عدوانياً كما صورها الغرب، بل هى دفاع مشروع عن الحقوق والمصالح بعد أن تحولت أوكرانيا إلى تهديد للأمن الروسى وأصبحت رأس رمح أمريكى – أطلسى ضد روسيا. فأوكرانيا، وكما يؤكد عالم اللغويات الأمريكى "نعوم تشوميسكى" تقع فى القلب الاستراتيجى الروسى، وليست مجرد دولة حدودية ملاصقة لروسيا. وإذا كانت أمريكا هى من وضع "سياسة الضربات الاستباقية" لمنع حدوث تهديدات محتملة، أو حتى غير محتملة، لها دون التزام بالقانون الدولى، على نحو ما قامت به من عدوان وغزو للعراق، فهى تفتقر إلى المسوغات الأخلاقية لمنع روسيا من حماية مصادر تهديد لأمنها متمركزة فى أوكرانيا.
هذا يعنى أن روسيا لن تقبل بأقل من مطالبها المعلنة التى تتضمن الحد الأدنى من شروط تحقيق الأمن المتكافئ مع الغرب على النحو الذى أعلنه وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف عقب لقائه مع وزير خارجية أوكرانيا بوساطة تركية ضمن "منتدى انطاليا" وهى: أن "تصبح أوكرانيا دولة محايدة منزوعة السلاح، ولا تمثل تهديداً لروسيا" ، مشدداً على أنه "لا نريد دولة نازية قرب حدودنا" .. هكذا تصوغ البدايات النهايات .. وهكذا تتبلور سيناريوهات المستقبل . فروسيا لن تقبل بأقل من "أوكرانيا محايدة" وهذا سيكون محور أى سيناريوهات محتملة للأزمة على النحو الذى تفرضه بداياتها وأسبابها .
أستاذ العلوم السياسية. مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. حاصل على دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، متخصص في دراسات النظم الإقليمية والعلاقات الدولية الإقليمية المقارنة، برلماني مصري وعربي سابق، عضو المكتب التنفيذي للمؤتمر القومي العربي، والأمين العام السابق لملتقى الشباب القومي العربي، رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية، ورئيس تحرير مجلة مختارات إيرانية السابق
mohamed.alsaid.idries@gmail.com






